مع بدء العدّ العكسيّ للانتخابات النيابية، بدأت الرهانات والآمال على أن تحمل معها "قفزة نوعيّة" على صعيد العمل البرلماني، ليس فقط لناحية دخول فئاتٍ مدنيّة من خارج الطبقة السياسيّة التقليديّة، ولكن أيضًا لناحية دخول النساء، أو الجنس اللطيف كما يحلو للبعض القول، إلى قلب البرلمان، لكسر "الذكوريّة" المسيطرة عليه منذ الأزل وحتى اليوم.
لكن، وتمامًا كما بدأ التفاؤل بالتغيير في السياسة يتبدّد شيئًا فشيئًا، مع تكشّف عيوب القانون الجديد، الذي تمنع تعقيداته الكثيرة التغيير المنشود، يبدو أيضًا أنّ "الانتفاضة النسائية" الموعودة لن تبصر النور، لأسبابٍ شتى لا تقتصر على غياب الكوتا النسائية عن القانون، بل تصل إلى انعدام الثقة بالنساء، والثقة هنا كما تشمل المجتمع عمومًا، فهي تشمل الأحزاب السياسيّة الأساسيّة، بشكلٍ خاص...
مقاعد متوارثة...
في البرلمان الحاليّ، أربع نساءٍ فقط من أصل 128 نائبًا، وهو عددٌ أقلّ من متواضع، بل مهينٌ ومعيبٌ، بالمقارنة مع دولٍ باتت فيها المرأة صاحبة القرار وسيّدته. ولعلّ المعيب أكثر، أنّ الغالبيّة العظمى من النساء لم تصل بكفاءتها إلى الندوة البرلمانيّة، بقدر ما لعبت "الوراثة" دورها على هذا الصعيد، فثلاث نساءٍ من أصل أربع تربطهنّ "قرابة" بأحد الزعماء، وهنّ بهية الحريري شقيقة رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، ونايلة تويني ابنة النائب السابق جبران تويني، وستريدا جعجع عقيلة رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع.
ولعلّ الجدير ذكره هنا أنّ البرلمانات السابقة لبرلمان 2009 لم تكن أفضل حالاً، فـ"الوراثة السياسية" لطالما كانت العامل الأساسي في وصول أيّ امرأة إلى البرلمان، ولعلّ تجربة كلّ من نايلة معوض أرملة الرئيس الراحل رينيه معوض، وصولانج الجميل أرملة الرئيس السابق بشير الجميل، أكثر من "فاقعة" في هذا المجال، إذ إنّ المرأتين اختارتا التواجد في البرلمان لـ"حجز" مقعدٍ بانتظار بلوغ "الوريث الذكر" السنّ القانونيّة، وهو ما حصل مع اعتكافهما، بحيث ذهب مقعد الجميل لنجلها نديم الجميل، في حين يتحضّر ميشال معوّض لخوض المعركة الانتخابية المقبلة بعدما بات جاهزًا لاستلام الأمانة، التي تصدّت لها والدته لمرحلةٍ مؤقّتة.
أما المفارقة، فإنّ جيلبرت زوين، التي تحوّلت خلال ولاية البرلمان إلى "مضرب المثل" في النكات، هي الوحيدة التي لا ترتبط مباشرةً بأحد الزعماء، وإن قيل إنّ أسبابًا أخرى دفعت "التيار الوطني الحر" إلى تبنّي ترشيحها في انتخابات 2009. وإذا كان صحيحًا أنّ زوين لم تلعب دورها كممثلة للشعب بالطريقة السليمة، وهي الغائبة دومًا عن السمع، فإنّ "ظاهرتها" إن جاز التعبير كشفت مشكلةً أخرى تعاني منها النساء في الحقل العام، فلزوين زملاء يتفوّقون عليها في عدم القيام بواجباتهم، بل إنّ بعضهم "مغترب" عن الوطن منذ يوم انتخابه، إلا أنّ أحدًا لا يتعرّض لهم بسوء، ولذلك معانيه ودلالاته بطبيعة الحال.
ولا شكّ أنّ كلّ هذه الأمور، إن دلّت على شيء، فعلى أنّ نظرة المجتمع إلى المرأة لا تزال نظرة دونيّة ضيّقة، وهنا بيت القصيد، فالمرأة إما تصل إلى الحقل العام لارتباطها بذكر ما كانت لتحلم بالوصول إلى "جنّة السلطة" من دونه، وإما أنها تصبح محلّ سخرية الأقربين والأبعدين، إلا أنّ المرأة تتحمّل جانبًا أساسيًا من مسؤولية تكريس هذه الصورة النمطيّة حولها، خصوصًا عندما "تستسلم" لهذا الواقع، ولا تقدّم "النموذج" المطلوب للتغيير.
لا انتفاضة ولا من يحزنون!
مع بدء التحضيرات للانتخابات النيابية، تفاءل المجتمع "النسوي" في لبنان بتغييرٍ طال انتظاره. التفاؤل بدأ مع النقاشات حول القانون الانتخابيّ، عندما وُضِعت الكوتا النسائية على طاولة المفاوضات بجدية، أو بالأحرى، ما اعتقدها المطالبون بها جدية. وعلى الرغم من أنّ معظم الأحزاب السياسيّة الأساسيّة الممثلة في البرلمان، والتي أقرّت القانون الانتخابيّ، كانت قد وعدت بإقرار الكوتا، بالحدّ الأدنى على لوائح الترشيح، وكتدبير مؤقت ليس إلا، أتى القانون خاليًا من أيّ إشارة للكوتا، وفيما توجّهت أصابع الاتهام إلى "حزب الله" بالوقوف خلف ذلك بالدرجة الأولى، لم تبدُ الأحزاب الأخرى "بريئة" بدورها من ذلك، فهي إن لم تستخدم حقّ الفيتو، لم تخض أيّ معركة تُذكَر في سبيل "الكوتا".
رغم ذلك، لم يتبدّد التفاؤل بـ"انتفاضة نسائية" عزّزها الحديث عن "كوتا طوعيّة" ستلجأ إليها الأحزاب، للتكفير عن ذنبها، أمرٌ لا تبشّر به معالم اللوائح الانتخابية التي بدأت بالظهور. فلائحة "الثنائي الشيعي" لم تضمّ أكثر من امرأة واحدة، وكلّ المعطيات تشير إلى أنّ باقي الأحزاب ستحذو حذو "حزب الله" و"أمل"، فإما تكون لوائحها "ذكوريّة" بالكامل، وإما "تزيّنها" بامرأة أو اثنتين كحدّ أقصى، لدواعي "رفع العتب" ليس إلا، رغم الوعود الكثيرة بـ"مفاجآت" على هذا الصعيد، وآخرها الوعد الذي أطلقه قبل أيام رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي كان قد سبق ووعد بـ"كوتا نسائية" على لوائح "المستقبل" في كلّ المناطق اللبنانية.
وبانتظار تبلور الصورة أكثر، وعلى الرغم من وجود "حماسة" نسائية على خوض المعركة الانتخابية، خصوصًا في صفوف المجتمع المدني، الذي يسجّل للكثير من لوائحه اعتمادها مبدأ "المناصفة" بين الذكور والإناث، فإنّ "التفاؤل" يتبدّد أكثر وأكثر يومًا تلو يوم، لمعطيات كثيرة، بينها بطبيعة الحال نظرة المجتمع للمرأة، وعدم تصدّي الأحزاب السياسية لمسؤولياتها على هذا الصعيد وترشيح نساء قياديّات من داخل صفوفها. ولكن، بالإضافة إلى كلّ هذه العوامل، هناك عامل "تقني" قد يشكّل "معوّقاً" إضافيًا يحرم النساء من الوصول إلى المجلس النيابي، ويتعلّق بالصوت التفضيلي، الذي تتخوّف المرشحات من أن يكون بمثابة سيفٍ مصلتٍ على رقابهنّ، إذ إنّ الناخبين سيفضّلون منح صوتهم التفضيلي، الذي لا يملكون غيره، للذكور، ولا سيما "القادة" منهم، ولعلّ دور النساء بمنع مثل هذه الممارسات يكتسب أهمية مضاعفة، باعتبار أنّ كلّ الإحصائيات تدلّ على أنّ نسبة النساء تفوق نسبة الرجال أصلاً ضمن فئات الناخبين.
العقلية الذكورية تتمدّد...
قبل الحديث عن مشكلة المجتمع والأحزاب السياسية والمدنية وغيرها مع النساء، قد يكون من المفيد الحديث أيضًا عن مشكلة النساء أنفسهنّ مع أنفسهنّ. فإذا كانت الأحزاب السياسية على سبيل المثال ماضية في تهميش النساء ودورهنّ، فإنّ النساء داخل الأحزاب يجب أن تبذل دورًا مضاعفًا لتغيير هذا السلوك، وفرض وجودهنّ خارج ما يُعرَف بالقطاعات النسائية وما شابه ذلك.
ولعلّ الضربة الأقسى التي يتعرّض لها المدافعون عن حق المرأة في المشاركة السياسية أن تخرج نساءٌ حزبيّات للدفاع مثلاً عن عدم تبنّي أحزابهنّ لأيّ مرشحةٍ أنثى، واعتبار الأمر طبيعيًا ولا مشكلة فيه، أو أن تخرج نساءٌ من المحازبات للقول إنّ النساء أصلاً غير مؤهّلات للوصول إلى المجلس، أو إنّ رئيس الحزب يبحث عن نساء مؤهّلات وقادرات، ولكنّه لا يجدهنّ.
ولأنّ العقلية الذكوريّة، الموجودة لدى الرجال والنساء، باقية على حالها، وربما تتمدّد، فإنّ الخشية ليست أن يبقى التمثيل النسائي على حاله من التهميش والتبعية في برلمان 2018، بل أن يتراجع أكثر من ذلك، وهو احتمالٌ أكثر من وارد!.